"صرخة قانونية".. أوكرانيا تسعى لمحاسبة روسيا على "جريمة العدوان"
"صرخة قانونية".. أوكرانيا تسعى لمحاسبة روسيا على "جريمة العدوان"
في تطور قانوني غير مسبوق ضمن مشهد الحروب الحديثة، وقّع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اتفاقية مع مجلس أوروبا تقضي بإنشاء محكمة دولية خاصة للنظر في جريمة العدوان الروسي على أوكرانيا، في خطوة ترمي إلى ملء الفراغ القانوني الذي حال دون مساءلة المسؤولين الكبار في الدولة الروسية منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير 2022.
جاء التوقيع خلال اجتماع في مدينة ستراسبورغ، مقر مجلس أوروبا، الذي يضم 46 دولة أوروبية ويُعد أحد أبرز حراس القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في القارة، وتستهدف المبادرة، التي وُصفت بأنها "تاريخية" من جانب كييف، مساءلة القادة الذين خططوا وأشرفوا على "الغزو الروسي"، وعلى رأسهم نظريًا الرئيس فلاديمير بوتين، في ظل عجز المحكمة الجنائية الدولية عن ملاحقة قادة دول لم تصادق على "نظام روما الأساسي".
رغم أن جريمة العدوان تُصنّف ضمن الجرائم الأربع الأساسية التي تندرج تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، فإن ملاحقتها تظل شبه مستحيلة في ظل الشروط القانونية الحالية، إذ إن المحكمة لا تملك ولاية على هذه الجريمة ما لم تكن الدولتان المعنيتان طرفين في نظام روما، أو ما لم يُحِل مجلس الأمن الدولي القضية إليها - وهو ما يصطدم بحق النقض الروسي.
هذه الفجوة القانونية، التي طالما وُصفت بـ"ثغرة السيادة المعفاة"، تتيح للقادة الكبار في الدول غير الأعضاء، شنّ الحروب من دون خوف من المساءلة. لذا، جاءت المبادرة الأوكرانية لتكون محاولة جادة لسدّ هذا الفراغ القانوني، وترسيخ مبدأ أن "العدوان لا يمكن أن يمر دون عقاب"، ولو في بعده الرمزي.
مدى فاعلية المحكمة
يثير إنشاء المحكمة تساؤلات جوهرية حول مدى قدرتها على التأثير الفعلي، فهل ستكون أداة قضائية نافذة أم مجرد صرخة رمزية؟ وهل يمكنها ملاحقة قادة في السلطة بدولة كبرى بحجم روسيا؟ الإجابة، وفق مراقبين، تعتمد على حجم الدعم الدولي الذي ستتلقاه المحكمة، ومدى تعاون الدول في تنفيذ قراراتها، خاصة في ظل غياب آليات إلزامية لمثول المتهمين أمامها.
ومع ذلك، تراهن كييف على أن المحكمة -وإن لم تستطع تنفيذ أحكامها في الوقت الراهن- قد تنجح في نزع الشرعية القانونية عن القادة الروس، كما سبق لمحكمة لاهاي أن فعلت مع قادة صربيا أو السودان، وبذلك، تتحول المحكمة إلى منصة قانونية ودبلوماسية موازية، تُستخدم في تثبيت الرواية الأوكرانية على الساحة الدولية، وتعزيز الضغط السياسي على موسكو.
وتأتي هذه المبادرة القضائية وسط أزمة إنسانية طاحنة تمرّ بها أوكرانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات، ووفقًا لتقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الصادرة في مايو 2025، تجاوز عدد اللاجئين الأوكرانيين 6 ملايين شخص، في حين رصدت بعثة الأمم المتحدة لمراقبة حقوق الإنسان أكثر من 29,000 ضحية مدنية، بينهم نحو 10,500 قتيل.
وقد وثقت منظمات دولية، بينها "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، جرائم متكررة شملت قصفًا متعمدًا لمناطق سكنية، واستخدام الحصار والتجويع كوسائل عسكرية، وتهجيرًا قسريًا طال مدنًا بأكملها، وفي الداخل، ألحق النزاع دمارًا واسعًا بالبنى التحتية، من مستشفيات ومدارس إلى شبكات المياه والكهرباء، فيما حذر "برنامج الأغذية العالمي" من أن نحو 17 مليون شخص باتوا بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية.
العدالة تعود إلى الجذور
وكانت أوكرانيا قد أعلنت، في 9 مايو الماضي، عن نيتها إنشاء مقر المحكمة بمدينة لفيف، بدعم مباشر من دول غربية، في إشارة رمزية إلى الدور الذي لعبته المدينة في النصف الأول من القرن العشرين في بلورة مبادئ القانون الجنائي الدولي، لا سيما في أعقاب محاكمات نورمبرغ التي أسست لفكرة محاكمة القادة المسؤولين عن الحروب والجرائم الكبرى.
وفي هذا السياق، يبدو أن كييف لا تسعى فقط إلى إدانة الجريمة الروسية، بل إلى إعادة بعث مفهوم العدالة الجنائية الدولية في وجه عالم أنهكته ازدواجية المعايير وتسييس القانون الدولي.
ورغم ترحيب الاتحاد الأوروبي والدول الغربية بالمبادرة، فإن بعض الدول الكبرى مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا أبدت تحفظها، معتبرة أن المحكمة قد تتحول إلى أداة سياسية موجهة ضد روسيا، كما حذّرت هذه الدول من أن فتح هذا الباب قد يقود إلى مطالب مشابهة في نزاعات أخرى لم تحظَ باهتمام مماثل، مثل الحروب في اليمن، أو النزاع في تيغراي، أو الجرائم المرتكبة في سوريا، والتي وثقت الأمم المتحدة سقوط مئات الآلاف من الضحايا فيها دون أن يتحرك المجتمع الدولي بالزخم ذاته.
ورغم ذلك، تبقى المحكمة المقترحة محاولة جادة لإعادة الاعتبار للقانون الدولي، وتذكيرًا بأن فكرة العدالة -وإن ظلت رمزية أحيانًا- لا تزال تملك القدرة على أن تكون صوتًا للضحايا في مواجهة واقع تغلب عليه الحسابات الجيوسياسية.
محكمة تُمهّد لمحاسبة روسيا
اعتبر المحلل السياسي الفلسطيني، محمد العروقي، أن الخطوة التي تتخذها أوكرانيا اليوم تمثل سابقة فريدة في العلاقات الدولية، ومحاولة جريئة لإرساء معايير قانونية جديدة لمساءلة الدول المعتدية عن الحروب التي تشنها، لا سيما من زاوية المحاسبة الشاملة التي لا تكتفي بحصر الأضرار في الإطار الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى ما هو أعمق وأشد تأثيرًا: حياة المدنيين، ومعاناة الشعوب، وتمزّق النسيج المجتمعي.
وقال العروقي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن أوكرانيا تسعى إلى تحميل روسيا مسؤولية الحرب من جميع الجوانب، وهي مطالبة ليست رمزية ولا سياسية فحسب، بل قضائية أيضاً، تهدف إلى تجريم العدوان الروسي على مستويات متعددة: إنسانية، وقانونية، ومادية. وما يميز هذا المسار، كما يؤكد، أنه لا يتعامل مع الشعب الأوكراني كرقم في معادلة دولية، بل كضحايا حقيقيين لحرب دمّرت مدنًا وشردت أُسرًا، وخلفت وراءها جراحًا لا تزال تنزف على أرض الواقع.
وأوضح العروقي، أن من الممكن، بل ومن الضروري، أن تُستثمر الأموال الروسية المجمدة في الغرب، بفعل العقوبات، في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وفي تعويض الأوكرانيين الذين تضرروا بشكل مباشر أو غير مباشر من العمليات العسكرية الروسية. هذه ليست مسألة تقنية أو مالية فحسب، بل فعل إنصاف تاريخي، يراد به ترميم الحد الأدنى من العدالة، في وجه حرب قال عنها العروقي إنها شهدت منذ أيامها الأولى مذابح مروّعة ارتُكبت في مناطق مثل إيربين وبوتشا، شمال العاصمة كييف، تلك المشاهد التي خلّفت صدمة جماعية وفضحت وحشية الحرب أمام أعين العالم.
ويرى أن المحكمة الدولية التي تسعى أوكرانيا لإقامتها، قد تمثّل منصة قانونية لتقوية موقف الضحايا، ليس فقط من سكان إيربين وبوتشا، بل أيضًا من أولئك الذين عاشوا الرعب تحت القصف في شرق البلاد، في مناطق مثل خاركيف، ودونيتسك، ولوهانسك، وسومي، حيث امتدت يد الحرب لتطال كل شيء: البنى التحتية، المرافق الطبية، المدارس، وحتى الملاذات الإنسانية.
وأكد العروقي، أن خطوة أوكرانيا تتجاوز البعد القضائي، إذ تسعى في جوهرها إلى إبراز الظلم التاريخي الواقع عليها، وكشف حقيقة ما ارتُكب بحقّها من "جرائم لا يمكن القفز فوقها أو التستر عليها"، على حد تعبيره. إن الإصرار على تحميل روسيا المسؤولية القانونية، والتعويض المادي، لا يأتي فقط من باب الانتقام أو تصفية الحسابات، بل من باب التأكيد على أن الظلم، حين يوثَّق قانونيًا، يصبح ذا أثر سياسي وأخلاقي على المجتمع الدولي بأسره.
وأضاف العروقي، أن هذه المحكمة، في حال تأسيسها، لن تكون فقط لصالح الأوكرانيين، بل قد تُحدث تحوّلًا نوعيًا في كيفية تعامل القانون الدولي مع الحروب والاحتلالات والجرائم العابرة للحدود. فهي تساهم في ترسيخ صورة روسيا، كما يراها الأوكرانيون، كدولة معتدية، ما يدعم موقف كييف في أي مفاوضات سياسية أو مباحثات سلام مستقبلية.
ولفت العروقي إلى أن هذه الخطوة القضائية تتكامل مع التحركات السابقة لمحكمة الجنايات الدولية، التي أصدرت بالفعل مذكرات توقيف بحق مسؤولين روس، من بينهم الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، وبهذا، فإن المحكمة الجديدة قد تضيف لبنة أخرى في بناء ملف قانوني وأخلاقي متماسك يُظهر المجتمع الدولي، وليس فقط أوكرانيا، بوصفه شاهدًا ومُدينًا لما جرى، ومسؤولًا عن ضمان عدم تكراره.
وختم العروقي تصريحه بالتأكيد على أن هذا المسار القضائي، مهما بدا طويلًا أو شاقًا، يحمل في طياته بذور العدالة التي قد تنبت يومًا ما في أرض الأوكرانيين، لا كتعويض فحسب، بل كاعترافٍ بحجم المعاناة وحق الشعوب في أن تُنصف، ولو بعد حين.
محكمة خاصة لجريمة العدوان
قال المحلل السياسي الأوكراني سعيد سلام، مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية، إن تأسيس المحكمة الخاصة بجريمة العدوان الروسي يمثل خطوة جوهرية في مسار العدالة الدولية، ويعكس تحولاً نوعيًا في معالجة الانتهاكات الجسيمة التي لحقت بالشعب الأوكراني منذ بدء الحرب. وأكد في تصريح خاص أن هذه المحكمة لا تقتصر أهميتها على الجانب القضائي فحسب، بل تمتد لتلامس الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والرمزية العميقة، لما لها من أثر على الضحايا، وعلى مستقبل المساءلة في العالم.
وأوضح سلام، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن المحكمة الخاصة تُسهم في سد ثغرة قانونية طالما بقيت قائمة في منظومة العدالة الدولية، إذ إنها تختص بالنظر في "جريمة العدوان"، وهي الجريمة التي تُعد الجذر الأساس لكافة الجرائم والانتهاكات اللاحقة من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فبينما تركز المحكمة الجنائية الدولية على تلك الجرائم الثانوية، تأتي المحكمة الخاصة لتؤكد أن التخطيط لشن حرب عدوانية، بحد ذاته، جريمة تستحق المساءلة القانونية.
وأضاف أن المحكمة ستُشكل ركيزة أساسية في توثيق الجرائم بشكل منهجي ودقيق، مما يضمن بقاء ذاكرة الانتهاكات حية ومؤطرة قانونيًا، لا تُنسى ولا تُطمس، وتعترف بمعاناة الضحايا رسميًا، وهو ما يشكّل جزءًا من عملية الاستشفاء الجماعي، وإعادة الاعتبار لكرامة المتضررين من هذه الحرب. كما أنها تُسهم في بناء سوابق قضائية رائدة في مجال القانون الدولي، من شأنها أن تُؤسس لمبدأ عالمي يُدين العدوان مستقبلًا، ويُعزز من مفهوم عدم الإفلات من العقاب، ليس فقط في الحالة الأوكرانية، بل في أي مكان يُخطط فيه لحرب مشابهة.
وأكد المحلل السياسي، أن المحكمة تضمن تمثيلًا حقيقيًا للأصوات الأوكرانية، سواء المدنية أو الحقوقية، إذ إنها تنبثق من مبادرة أوكرانية مدعومة دوليًا، وتُصمم بهيكل هجين يجمع بين قضاة ومدعين دوليين وأوكرانيين، ما يضمن تحقيق توازن بين المعايير الدولية والخصوصية المحلية، مرجحا أن تُعتمد آليات لمشاركة الضحايا، سواء عبر شهاداتهم المباشرة أو من خلال منظمات المجتمع المدني، التي سيكون لها دور حيوي في تقديم الأدلة وتوثيق الانتهاكات.
وتابع: إن إنشاء المحكمة سيُحدث أثرًا اجتماعيًا واسعًا، يتجاوز الجانب القضائي إلى ما هو إنساني بامتياز. فعائلات الضحايا، واللاجئون، والنازحون داخليًا، سيشعرون للمرة الأولى أن معاناتهم لم تُهمل، بل يُعترف بها قانونيًا، وأن العدالة بدأت تأخذ مجراها. هذه العملية لا تُعيد فقط الأمل، بل تُعيد الثقة في الدولة وفي قدرتها على حماية حقوق شعبها، كما تُعزز من الشعور بالانتماء والكرامة. والمساءلة في هذا السياق، ليست مجرد محاكمة، بل عملية شفاء جماعية، تُمكّن الضحايا من التعبير عن ذواتهم، ومن كتابة تاريخهم بأصواتهم، لا بأقلام من أنكروا وجعهم.
واختتم سلام، تصريحاته بالإشارة إلى أن المحكمة، في حال تمتعت بالاستقلالية التامة والشفافية الكاملة، يمكن أن تُشكل أرشيفًا قانونيًا تاريخيًا ذا مصداقية عالية للانتهاكات المرتكبة، يضمن عدم طمس الحقيقة أو تزييفها مستقبلًا. من خلال جمع الأدلة من شهادات ووثائق وصور ومعلومات استخبارية، ستتمكن المحكمة من تحديد المسؤوليات الجنائية الفردية بدقة، مما يمنع تعميم الاتهام على الشعب الروسي، ويركّز على الجناة الحقيقيين، لكنها، ستظل تواجه تحديات واقعية، مثل الرفض الروسي المسبق للتعاون، وصعوبة الوصول إلى بعض الأدلة، واحتمال تنفيذ محاكمات غيابية.